روح البنوة

 

يوحنا 20: 19-29

 

"سلام لكم! كما أرسلني الآب أرسلكم أنا" ... " اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه، تغفر له، ومن أمستكم خطاياه أمسكت".

 

لازلنا في الأحد الثالث من فصل القيامة نتأمل في حدث القيامة. لقد وجدت الكنيسة في القيامة أساساً لإيمانها ولتعاليمها والمسيحيون الأوائل كانوا مقتنعين أن يسوع "أقامه الله" وأن "الله جعل يسوع هذا... رباً ومسيحاً" (أع2: 32، 36).

 

سنتأمل اليوم في قولين ليسوع عند ظهوره للتلاميذ بعد موته، في ضوء حدث القيامة ومعناها. يقول يسوع: "كما أرسلني الآب أرسلكم أنا". يشير القول إلى بنوة يسوع، وبنوته تشرح علاقته مع الله كعلاقة الابن مع أبيه، وخاصة عندما خاطب الله في الصلاة قائلاً: "يا أبا الآب" "abba" وتشرح أيضاً علاقته مع جماعة المؤمنين كعلاقة الأخ الأكبر مع إخوته وأخواته. فمفهوم بنوة يسوع لله، وهو الإنسان الذي عاش مثلنا في كل شيء، يسمح بأن نطبق معنى وإمكانية البنوة على المؤمنين، كما يقول بولس الرسول: "ليكون هو بكراً بين إخوة كثيرين" (رو8: 29). يمكننا القول أيضاً أنّ يسوع القائم حي في داخل كل مؤمن، وبوجوده معنا نستطيع أن نشارك في معنى وحقيقة البنوة لله، ونشارك أيضاً في حياته، في أفعاله وأقواله. فيسوع هو الابن الأمين والمطيع، وكلما استطعنا أن نعيش بأمانة وطاعة لله، شاركنا في أمانة وطاعة يسوع، أي في بنوته للآب.

 

"كما أرسلني الآب أرسلكم أنا"، وبهذا نشاركه أيضاً في هذه المهمة الإرسالية. فقد أرسله الآب ونحن كذلك قد أُرسلنا مثله.

 

طبعاً نحن نعرف أن الإنسان يولد من دم وجسد ولكن هذا لا يمنع أن حقيقة الإنسان هو في الله ومع الله. ما أريد أن أقوله هو: إن ظروف الحياة قد تبعد الإنسان عن الله، وقد يبحث عن معنى للحياة في كل الأشياء التي تحيط به، ولكنه في النهاية سيدرك حقيقة بنوته وسيعود إلى الآب مثلما عاد الابن الضال الى أبيه. واذا أردنا أن نلخص كل الإيمان لقلنا أنه يتجلى في شعور البنوة هذا، إذ يدرك الإنسان أن حقيقته ليست بعيدة عن الله. فلا تتعجبوا اليوم إن قلنا أنه يمكن أن نعبر عن فحوى ومضمون الإيمان كله بشعور البنوة هذا، الذي هو أقوى بكثير من كل المعرفة الفلسفية والفكرية للمسيحية. الشعور بالبنوة هو نفسه المحبة والوجدان المسيحي أو الشغف والعاطفة المسيحية. وقد قال أحد الفلاسفة بأن: "أهواؤنا هي التي تشكل حياتنا" “Our passions constitute our lives.” يمكننا إذاً أحباءنا القول أن الشعور بالبنوة هو شعور قيامي. فمعرفتي الضمنية أنني ابنة الله أو ابن الله واتكالي الكامل عليه يرفعني من ضعفي وينهضني من جديد من كبوات الحياة وإخفاقاتها. الشعور بالبنوة يفتح أمامنا آفاقاً لم تكن موجودة من قبل، ويعطينا القدرة والقوة في أوقات الأزمات، هي ليست من قوتنا نحن أو قدرتنا البشرية. هذا ما حدث عندما ظهر يسوع لتلاميذه وهم مجتمعون في قاعةٍ والأبواب مغلقة بسبب الخوف من اليهود، حيث أزال يسوع خوفهم وشكوكهم وأعطاهم قوة استطاعوا أن يشهدوا بها له "إلى أقصى الأرض".

 

شعور البنوة يتضمن أيضاً الشعور بالأخوة تجاه الآخرين الذي بدوره يرفعنا من أنانيتنا ومحبتنا للذات فلا تعود حساباتنا الشخصية تجاه الآخرين مهمة ولا مسيطرة علينا. إن معرفتنا الضمنية بأننا جميعاً أبناء الله ترفعنا من مستوى الخلافات التافهة وتساعدنا على التسامح وتجاوز ضعفات الآخرين، وهذا ما أسميه شعوراً قيامياً أو طاقة قيامية، وكأننا نختبر القيامة كلما مارسنا الغفران. هذا كله يأتي بنا لنقول بأنه ليس من الكافي القول أن يسوع أخذ خطايانا وأمراضنا، رغم صحة هذا القول الذي يذكرنا بما قاله أحد آباء الكنيسة: "ما أخذه (يسوع) على عاتقه خلَّصه". ولكن علينا أيضاً أن ننظر إلى الوجه الآخر لهذه الحقيقة، أي أنه علينا نحن أيضاً أن نأخذ على عاتقنا بنوة يسوع، حياته، رسالته و حتى صليبه.

 

قال يسوع أيضاً: "اقبلوا الروح القدس". وكأنه يقول لهم: الروح هو الرابط بينا. الروح سيقودكم كي تعيشوا حياتكم في خُطاي، وتقوموا باسمي بأعمال أقوم بها أنا. هذا الروح، أحبائي، هو الذي يشهد للمسيح ويفسر لأتباعه كل ما قام به وقاله.

 

لقد استعمل الرسول بولس مفهوم الروح ووجود المسيح الباطني في المؤمن بشكل قابل للتبادل. قد يكون من الصعب أن نثبت أن بولس قد ميز بين الروح القدس وبين المسيح القائم والحي في داخل الإنسان. نراه على العكس، يساوي بين هاتين الحقيقتين. فالروح القدس هو الأسلوب، أو الطريقة، التي بها يأتي المسيح ويسكن فينا. وبالتالي، الروح القدس، أو روح الله، هو مبدأ حياة المؤمن. " بما أنكم أبناءٌ، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً: يا أبا الآب. إذاً لستَ بعد عبداً بل ابناً، وإن كنتَ ابناً فوارثٌ لله بالمسيح" (غل4: 6-7).

 

قد لا نبالغ عندما نقول أن الرسول بولس يقدم حدث القيامة، الصعود وحلول الروح القدس (أو العنصرة) كثلاثة وجوه مختلفة للحقيقة ذاتها، أي لوجود المسيح الحي عن طريق الروح مع الإنسان المؤمن وفي داخله. بالروح فقط نستطيع أن نتحد مع الله فنعمل أعمال أبنائه وبناته، أي يكون بمقدورنا أن نغفر للآخرين. إن كلمات يسوع: "من غفرتم خطاياه تغفر له"، قد تعني أن الغفران هو أعظم ما يمكنه لتلاميذ يسوع القيام به، وهذا غير ممكن دون أن يسكن روح الله، أو روح المسيح، داخل الإنسان فيحرره من قيوده لكي يتقبل الآخر بكل عثراته وزلاته. بهذا المعنى أيضاً يمكن القول أن خطيئة الإنسان الكبرى هي أنه لايستطيع أن يغفر للآخرين، ومن لا يغفر، لا يقدر أن ينال غفران الله. فمن يبعد الآخر عن حياته ولا يقبله في قلبه، هو أيضاً يبعد الله عن قلبه ولا يقبله. بالتالي تُعطى للتلاميذ عطية غفران الخطايا كعلامة لقيامة يسوع، أي أنه فقط بالغفران نصل إلى القيامة والحياة الجديدة. فيسوع نفخ على التلاميذ كما نفخ الله روحه في آدم في سفر التكوين، وهكذا أعطى يسوع التلاميذ إمكانية بداية جديدة.

 

التركيز اليوم أحبائي على الروح لكي نقول أن روح المسيح، أو روح الله، يحررنا من الخوف والقلق فلا نبقى سجناء نفوسنا بل نقتحم الجدار إلى "سماء جديدة وأرض جديدة".

 

"لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ. إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ:«يَا أَبَا الآبُ». اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ. فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا، وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ." (رو8: 14-17)

 

سيلفي أفاكيان- معمارباشي

18.05.2015

 

 

 

صلاة الامهات

 

إلهنا السماوي،

 

يا من لا تنتمي إلى عالمنا هذا المشوش، ولا إلى تاريخ مسيَّس،

 

يا من لا تتلائم مع مجتمع أبوي بحت، مسيطر على الضعيف،

 

بل تتماثل مع الضعيف، وتدمج نفسك في شخص المنبوذ وتتوحّد مع الفقير.

 

إلهنا نصلي إليك اليوم كأمهات، ونحن نعرف أنك لست ببعيد عن حقيقة الأمومة،

 

فالأبوة الحقة فيها من الحنان ما يماثل أمومة الحياة.

 

تعال إلينا إلهنا في هذا اليوم، وفي كل يوم،

 

تعال إلينا ليس من أجل ضعف فينا نحن الأمهات،

 

فقد عششت قوتك في داخلنا وقوتك في الضعف تكمل.

 

نعم إلهنا، نحن قويات وراسخات في الإيمان،

 

قويات رغم الذل والهوان،

 

قويات رغم تآمر المستبد وتهجم الظالم.

 

قويات على الرغم من البؤس والحرب والوجع.

 

فأولادنا يمرضون ويتوجعون، يتسولون في شوارع المدينة،

 

وشبابنا قد خطفهم الشر وبناتنا قد غدرت بهن ظروف الحياة،

 

وآخرون كثيرون يموتون فقراً وجوعاً،

 

أو يموتون في ساحات المعارك حاملين الأسلحة باسم إله غيرك،

 

في غياب كل فكر ومعنى.

 

تعال إلينا وزدنا قوة، زدنا إيماناً وترسخاً في المحبة والعطاء.

 

تعال إلهنا وحِن علينا،

 

حِن على أولادنا وارفعهم من بؤسهم ومن كل ظلم

 

وأعدهم كلهم إليك، إله المحبة والغفران.

 

ارفعنا نحن أيضاً وأنهِضنا. أنهِضنا من كبوتنا،

 

أنِهضنا من تاريخٍ ظلم الأمهات، وأزِل عنا الخوف والقلق.

 

هَبْ لنا أن ننفضَ عنا غبار الزمن، فنرفض الخضوع والعبودية.

 

اغفر لنا سهونا، تناسينا للحقيقة وتغافلنا عن المسؤلية.

 

اغفر لنا لأننا كثيراً ما فضّلنا الراحة والأمان على أن نعمل ونجتهد.

 

كثيرًا ما رضخنا وتهاوننا،

 

كثيرًا ما نسينا كلمتك، كلمة الحق والحياة.

 

كثيرًا ما سمحنا لظروف الحياة وأهواء المجتمع أن تصنعنا

 

وتجعل منا لعبة أو ألعوبة على شاكلة مخيلاتهم.

 

تعال إلهنا واخلقنا من جديد،

 

تعال إلهنا واغسل عنا غبار الزمن وجدّد في داخلنا روحك القدوس.

 

حررنا من قيود التاريخ والمجتمع،

 

وهَب لنا أن نكون على صورتك التي صنعتنا أنت عليها،

 

صورة الكلمة الحرة، كلمة الحق والمحبة: يسوع المسيح.

 

هلم إلهنا، تعال إلينا فنقبل الصليب كما قبله يسوع.

 

يسوع الذي عندما خرج حاملاً إكليل الشوك وثوب الأرجوان قال عنه بيلاطس: "هوذا الإنسان!"

 

إجعلنا إلهنا على صورته وعلى صورتك أنت، فأنت لست بإله حرب

 

ولا تسرُّ بذبائح أو بمحرقة،

 

بل قوتك في الضعف تظهر ومجدك لم يتحقق إلا على الصليب.

 

تعال إلهنا اليوم وقوِّنا، فلا نترجى الستر والحماية من أقوياء هذا العالم،

 

ولا نبحث عن سور أو ترس من صنع إنسان "لأنه ليس بالقوة يغلب إنسان" (1صم 2: 9)

 

بل نقف في صحراء الحياة، مرفوعات الرأس،

 

وعيوننا تنظر إلى المسيح،

 

فهو المستقبل،

 

هو الأمل والرجاء.

 

آمين.

 

 

 

23.03.2015

 

 

 

 

 

أبناء حقيقيون

 

متى 21: 23-32

 

كثيرون من المفسرين يعتقدون أن في هذه المرحلة من حياة يسوع أصبح لدى رؤساء الكهنة والشيوخ الإثباتات الكافية لإدانته. والأسباب عديدة: دخل يسوع أورشليم كملك متواضع (في بداية هذا الإصحاح)، قال عنه الجموع أنه: "النبي الذي من ناصرة الجليل" (21: 11)، ثم دخل إلى الهيكل وأخرج الباعة وقلب الموائد. وهناك "تقدم إليه عميٌ وعرجٌ... فشفاهم". أما الأولاد فكانوا يصرخون "أوصنا لابن داود!" (21: 15).

 

بعد هذا ترك يسوع الهيكل وذهب إلى بيت عنيا. وهناك في الصباح لعن شجرة التين فيبست في الحال. على الرغم من أن التينة كانت تبدو خضراء جميلة، إلا أنها لم تحمل الثمار، وهكذا كانت الحياة الدينية للفريسيين ومعظم القادة الروحيين، إذ كانت هيئتُهم دينية وحياتُهم تبدو وكأنها نشيطة روحياً، خضراء، مصممة بشكل كامل وممتاز، ولكن كانت قلوبُهم من الداخل ميتة، وحياتُهم خالية من أعمال الرحمة والمحبة. فكانت التينةُ الملعونة رمزاً في التقليد اليهودي للدينونة والعقاب الذي كان يناله شعب إسرائيل مقابل خطاياه وارتداده عن الله (إر8: 13-29: 17).

 

في قراءتنا اليوم للإنجيل يعود يسوع للهيكل الذي تركه قبل يوم وهناك يتقدم إليه رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وهو يعلم، ويسألونه عن طبيعة ومصدر سلطانه. أما جواب يسوع فلم يتوقعه الكهنة، إذ سألهم بدوره عن سلطان معمودية يوحنا إن كانت من السماء أم من الناس. فالسلطة الآتية من الناس هي في الغالب نتيجة دعم الناس لقاء مقابل، أو هي نتيجة قوة السلاح الذي يملكها الطرف السائد، أما السلطة المعطاة من السماء فهي متعلقة بشكل أو بآخر بالحقيقة، حقيقة الله وحقيقة الإنسان. بدأ رؤساء الكهنة والشيوخ يتناقشون فيما بينهم ليجدوا جواباً ليسوع لا يحرمهم من سلطانهم. وهذا يدل أن سلطانهم كان من الناس. لم يستطع الكهنة الرد على يسوع، أما يسوع فيرد عليهم بطريقة غير مباشرة من خلال مثل الإبنين. ولكن وقبل أن ننظر الى هذا المثل علينا أن نشير إلى فارق أساسي بين سؤال رؤساء الكهنة ليسوع وسؤال يسوع لهم. فالكهنة يسألون: "بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان؟" أما يسوع فيسأل: "معمودية يوحنا من أين كانت؟" فالسؤلان يعكسان إختلافاً في مفهوم السلطة. رؤساء الكهنة والشيوخ يعتقدون أن ليسوع سلطاناً يقوم به بأعمال مختلفة و مصدره شخصٌ أو معلمٌ آخر، أما يسوع فلا يتحدث عن سلطان يوحنا بل عن سلطان "معمودية يوحنا". أي أن السلطة مرتبطة بالعمل في مفهوم يسوع وليس بالشخص. الإنسان بحد ذاته لا سلطان له ولكن الأعمال التي يقوم بها لها سلطان. وقد قال يسوع في مكان آخر: "إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فَلاَ تُؤْمِنُوا بِي. وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ أَعْمَلُ، فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي فَآمِنُوا بِالأَعْمَالِ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا أَنَّ الآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ". )يوحنا-37:10 38(

 

يحكي يسوع إذاً مثل الإبنين، وفي نهاية المثل يستبدل يسوع شخصيتي الإبنين بالعشارين والزواني من جهة ورؤساء الكهنة وشيوخ الشعب من جهة أخرى. فالإبن الأول الذي يرفض طلب الأب ولكنه يندم فيما بعد ويمضي ليعمل في كرم أبيه هو بمثابة العشارين والزواني. أما الثاني الذي يقبل طلب الأب ولكنه لا يذهب بالفعل إلى الكرم ليعمل يمّثل الكهنة والشيوخ الذين يجيدون الكلام لا الفعل. بناءً على هذا المثل، اعتبر يسوع كلتا المجموعتين أولاد الله. ولكن كانت أعمالُهم لا أقوالُهم تحدد حقيقة بنوتهم. أما كرم الأب ففيه عمل كثير: التقاط الصخور، الزراعة، التقليم، قطف الثمار، وهذا يتطلب التفاني وبذل الذات. فالكرم ليس مكاناً للتسلية. الأعمال إذاً أهم من الأقوال، وفي هذا تنبيه إلى حياة الكنيسة اليوم. فعلى الرغم من أن الكنيسة هي أولئك الذين يتفوهون بالكلمات الصحيحة ولكنهم قد يفشلون في العمل بها. نقرأ في الإنجيل ذاته قول يسوع: "من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي". فيسوع يرى أن العشارين والزواني هم الذين آمنوا حقيقة بيوحنا المعمدان. البنوة الحقة إذاً هي في الحياة الفاعلة وليست في إدعاءاتٍ أو تصاريح علنية. أما الكلمة الأساسية في المثل هي كلمة "ندم". وهي تعني في الأصل اليوناني metamelomai تغير القلب أي تغير ما يريده الإنسان فعلاً. يعيد يسوع ويذكر الكلمة نفسها في نهاية المثل، إذ يقول: "أنتم إذ رأيتم، لم تندموا أخيراً لتؤمنوا به". أي أن قلوبكم لم تتغير بسبب قساوتها. هذا الشرح للكلمة يأتي بي لأقول أن عمل الإنسان يسبقه الفكر والإرادة. فقط عندما يرغب الإنسان الحقيقة و يشتهيها يمكنه أن يعمل من أجلها. وكأنه هناك دائماً هذه الثلاثة التي هي أساسية في عمل مشيئة الله، أي الفكر والإرادة والعمل. و قد نتذكر اليوم حياة الأم تيريزا ، الألبانية الأصل، التي عاشت معظم حياتها في الهند، وكانت تهتم برعاية الأولاد الفقراء، أولاد الشوارع، وذوي الأمراض المزمنة و هي التي قال عنها البابا جان بول الثاني أنها وجدت في الصلاة والتأمل بشخص يسوع القدرةَ على الإستمرار في خدمة الآخرين.

 

في رسالته إلى أهل فيلبي يطلب بولس الرسول من أهل الكنيسة أن يفكروا فكراً واحداً، "لا شيء بتحزبٍ أو بعجبٍ، بل بتواضع، حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم" (في2: 3). ويقول كذلك "ليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع." أما مصدر هذا الفكر وهذه الإرادة والقدرة على العمل هو الله نفسه، إذ يقول بولس "لأن الله هو العامل فيكم، أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة" (في2: 13). وكأنه في هذه الثلاثة متحدة- الفكر، الإرادة و العمل- تكمن سلطة الإنسان وحقيقته. في الأصل اليوناني، كلمة "العمل" هي "energeo"، أي الله هو مصدر الطاقة التي تهدف إلى المسرة لا إلى مصالح شخصية. على الإنسان إذاً أن يخرج من ذاته ومن أناه "المقيتة" كما يسميها بليز باسكال (the self is detestable)، لأنها تلغي الآخر وتدمره، أما إيمانُنا المسيحي فلا يقوم على بناء الذات على حساب الآخر بل على المحبة والعطاء من أجل سلامة الآخر وسلامة المجتمع.

 

نحن في هذا الشرق كثيراً ما نهتم بالمظاهر وبالجمال الخارجي. نحب الخطابات والتصريحات وتمثيل السلطات، بينما نادراً ما نهتم بحقيقة الأمور وجوهرها وصميمها. نفضل أحياناً حضور الإجتماعات مع دول وسلطات أجنبية على مد يد العون والصداقة لجارٍ مختلفٍ عنا. نحن في هذا الشرق تنقصُنا الأعمالُ التي تهدف إلى المسرة، أي إلى الخير العام. الأعمال الناتجة عن فكر المسيح وإرادة إتمام مشيئة الله.

 

صلاتنا اليوم أن نتشبه بالمسيح يسوع الذي تردد في إعلان سلطانه وبنوته، فهو "لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله". صلاتنا أيضاً أن ينعمَ الله علينا بقدرة تدفعُنا إلى العمل في كرمه فنشبه حينئذ تينةً مثمرةً، وتشهدُ ثمارُنا لنا بأننا أبناءٌ حقيقيون للآب.

 

سيلفي أفاكيان معمارباشي

19.10.2014

 

 

 

 

مريم ومرثا

 

)لوقا 10: 38-42(

 

أيهما أفضل: الواجب أم المحبة؟ أيهما أهم: العمل والإنتاج أم تكريس الذات، الممارسات الدينية أم الحضور الذاتي، الحياة العملية أم الحياة التأملية، عمل الإنسان أم كينونته وشخصه، النشاطات التي يقوم بها المرء أم فكره وقلبه؟ من كانت على صواب، مرتا أم مريم؟

 

تذكّرنا هذه القصة بأوقات احترنا فيها بين العمل والتأمل. في أحيانٍ، قد نكون اخترنا الأعمال والنشاطات، وفي أحيانٍ أخرى اخترنا الجلوس والتفكر بشكل أعمق. و قد لا يزال السؤال يرافقنا إلى الآن: أيهما نختار؟ الخدمة أم القراءة والتأمل؟ فالخدمة جزء أساسي من الحياة المسيحية، وهي الثمار التي بها نُعرف من قبل الآخرين. كما أن الشجرة بلا ثمار لا فائدة منها، كذلك الحياة المسيحية بدون أعمال المحبة عاجزة عن اتمام رسالتها وإبلاغ شهادتها في هذه الحياة. ألا نقول عادةً بأن الأعمال تُظهر حقيقة الإنسان وهويته؟ وكأن الأعمال تعكس، بقصدٍ أو بدون قصد، فكر الإنسان وباطنه.

 

نعم الأعمال مهمة، وهي الثمار كما نقول. لكن أين الخطر عندما نركز فقط على أهمية الأعمال؟ أو ما هي مساوئ التركيز الكلي على الأعمال؟ نقرأ عن مرثا في الإنجيل أنها كانت "مرتبكة في خدمة كثيرة". كلمة "مرتبكة" في الأصل اليوناني هي perispaw وتعني أن ينهمك المرء للقيام بعمل ما وإتمامه لدرجةٍ تنسيه أهمية الظرف الذي وجد لأجله العمل نفسه. كأن الإنهماك يسحب الإنسان من واقعه ويجعله يتقوقع ضمن إطار العمل الذي يسعى لإتمامه. حالة الإنغماس في العمل هذه تؤدي بالشخص إلى إهمال ما هو أهم من العمل ذاته. وبالتالي يترك المرء أشياءً أساسية ويتجاهلها لأجل إتمام عمله بنجاح. هذا يشبه إلى درجة كبيرة عمل الغني الغبي الذي نقرأ عنه في الاصحاح 12 من هذا الإنجيل على لسان يسوع. كان الغني منغمساً في عمله لدرجة أعاقته عن رؤية ما هو أبعد منه. لقد قرّر الغني أن يبني مخازن أعظم ليجمع هناك جميع غلاله. لكنه كان غبياً لأنه لم يرَ أبعد من نفسه ليأكل ويشرب ويستريح.

 

لكن إذا أكملنا قراءة المقطع الإنجيلي تستحوذ كلمة "خدمة" انتباهنا. نقرأ عن مرثا أنها "كانت مرتبكة في خدمة كثيرة". و"الخدمة" في الأصل اليوناني diakonia تعني العطاء، خدمة الله، أو تعني خدمة المائدة التي يقوم بها خادم المائدة (أو الراعي).

 

اذاً، عمل مرثا مهم. هو ليس عملاً أنانياً، لكن الإرتباك يدفعها إلى الشكوى ليسوع. وإرتباك مرثا هو سبب لوم يسوع لها. يجيب يسوع مرثا قائلاً: "مرثا مرثا أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة". إن كلمة "تهتمين" أو "الاهتمام" merimnaw هي نفسها الواردة في مت 6: 25 على لسان يسوع و هو يقول: "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون". ثم يتابع، "انظروا إلى طيور السماء"، وأيضا يقول يسوع: "لماذا تهتمون باللباس؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو! لا تتعب ولا تغزل" (مت 6: 28).

 

كأن يسوع يريد أن يعلّم مرثا، أو التلاميذ، بأن هناك ما هو أبعد من إهتمامات الإنسان المباشرة في حياته اليومية. نعم العمل مهم والإجتهاد أساسي في الحياة، لكن الإهتمام لدرجة الإرتباك والإضطراب بالعمل يمنعان المرء من أن يجلس بهدوء ويستمع إلى كلمة الرب كما فعلت مريم.

 

الإرتباك والإضطراب يعيقان المرء ويمنعانه من أن ينظر إلى طيور السماء وإلى زنابق الحقل كيف تنمو. أي بكلمات أخرى، يمنعان المؤمن من أن يختبر عناية الله الحقيقية له في كل زمان ومكان. إنّ شعور الإنسان بوجود الله وإدراكه لعنايته هما تماماً عكس إحساسه بالإرتباك والإضطراب. بهذا المعنى يمكن وصف الإيمان المسيحي بأنه: "الشعور بالثقة المطلقة" (والتعبير للاهوتي شلايرماخر). فأن يشعر المرء بالثقة المطلقة، وأن يكون مدركاً لعلاقته مع الله هما شيءٌ واحد.

 

إذا كانت لي علاقة محبة مع الله فهذا يؤدي إلى شعوري بالثقة نحوه. أماالشعور بالثقة المطلقة فيجمع بين عنصرين أحدهما غير فعّال (passive)؛ أي أن يكون المرء معتمداً كلياً على الله. وهذه هي حالة الجلوس والتأمل التي تساءلنا عنها في البداية وهي تصف تماماً حالة مريم، اذ نقرأ: "جلست عند قدمي يسوع، وكانت تسمع كلامَه". والعنصر الثاني هو عنصر فعّال (active)؛ وبه يقوم الإنسان بأعمال الخدمة ويكون نشيطاً وفعّالاً من أجل سلامة حياته وحياة مجتمعه. وهذا يصف حالة مرثا وهي تخدم الرب.

 

لكن أحبائي، على الخدمة أن تكون بلا إرتباك، بلا إضطراب، بلا أنانية، بلا خوف، بلا إنزعاج، وبلا شكوى. العمل الصالح والخدمة الصالحة هما من الرب الذي نتعلم منه كيف نخدم بعضنا بعضاً بتواضع كبير وبمحبة كاملة.

 

التباين اذاً، إخوتي وأخواتي، ليس بين العمل والتأمل كما تساءلنا في البداية. العمل والتأمل هما وجهان لحقيقةٍ إيمانيةٍ واحدة. التباين هو بين الخدمة الـمُحِّبة والخدمة المرتبكة المضطربة، بين الثقة وعدم الثقة، بين سلامٍ داخلي وإضطرابٍ باطنيٍ كبير لا يسمح للمرء بأن يكون هادئاً، و كأنه ينتشل منه سلامه ويتركه معرضاً لأمواج الحياة دون صخرةٍ يلجأ إليها.

 

العمل والتأمل هما عنصران أساسيان لشعورنا بالثقة المطلقة نحو الله؛ أي لإدراكنا لعلاقة المحبة التي تربطنا به. بالتأمل نحن نستمع إلى صوت الله، نستمع إلى كلمته ونقبلها في حياتنا كي نقترب بها منه فنتشبّه به وننمو كي نكون على صورته التي خلقنا عليها. وبالعمل والخدمة نسعى إلى تحقيق هذه الصورة، صورة الانسان المحب والمعطي والخادم لجاره الإنسان.

 

سيلفي أفاكيان- معمارباشي

26.02.1014

 

 

 

 

طريق الملكوت[1]

 

 

 

يمكن بكلمة واحدة وصف عصرنا الحالي بأنه عصر التكنولوجيا، وكأن الحياة بدون الكومبيوتر أوالـsmart phone مستحيلة. يمكن للمرء أن يتساءل اليوم عن نتيجة الأهمية الزائدة للـ technology في حياته. هل ستزيد هذه من نجاحه؟ هل ستؤمن له حياة أفضل ومراكز أهم؟

 

طبعاً التكنولوجيا تتطلب من الإنسان مجهوداً فكرياً. فبدون معرفة أساليب استعمال الكمبيوتر لا يمكن للمرء الاستفادة منه. إلا أنه من الضروري هنا التمييز بين نوعين أو اسلوبين مختلفين للعمل أو للمجهود الفكري الإنساني: الأول هو التفكير الحسابي (calculative thinking والتعبير لهايدغر). وهو التفكير الذي يلجأ إليه المرء عندما يريد الإستفادة من التكنولوجيا الدارجة. التفكير الحسابي هو أساس الحركة التكنولوجية، باختراعاتها الجديدة التي تجذب الإنسان وتبني فيه الإنسان اللامكترث، الذي لا يهتم كثيراً بالتفاصيل، وكأنها تبني فيه عالماً وهمياً، يكون فيه الإنسان أسير وسائل التكنولوجيا التي يملكها وغريباً حتى عن عالمه هو الداخلي.

 

التفكير الحسابي نلجأ إليه كلنا في حياتنا اليومية، عندما نتكلم أو نعمل دون أن نستشف عمق ما نقول أو نفعل. فنختار في كل شيء الأرخص والأسرع والسطحي. التفكير الحسابي يلجأ إليه الشباب الذين يرغبون في مستقبل مريح، فيحسبون ويخططون بالوسائل والطرق التي تؤمن لهم مستقبلاً مرفهاً ومراكز مهمة، وبأقل التضحيات أو بأدنى مستوى من المجهود الشخصي.

 

بالتفكير الحسابي لا يراعي المرء معاني ونوعية القرارات أو الخيارات التي يقوم بها وكأن الإنسان به يتهرب من التفكير ويصير عاجزاً عن مواجهة أخطار عصره التي تهدد كيانه وحقيقته الداخلية. يمكننا اليوم أن نلاحظ أن التفكير الحسابي يسيطر على عالمنا وعلى مجتمعنا وخاصة على جيل الشباب.

 

النوع الثاني للمجهود الفكري هو التفكير التأملي (meditative thinking والتعبير لهايدغر). نلجأ إلى هذا النوع من التفكير كلما أردنا أن نستفسر عن معاني الألفاظ التي نستعملها والأعمال التي نقوم بها أو بشكل عام نبحث عن معنى للحياة، فنعمل من أجل الحقيقة والخير دون مبالغة ودون اللجوء إلى زخارف خارجية.

 

بالتفكير التأملي يركز الإنسان على ظروف حياته هنا الآن، فيكون مسؤولاً عن أقواله وأفعاله وفرداً ملتزماً في مجتمعه. فلا يبقى فقط مشاهداً للأحداث بل يأخذ فيها دور الإنسان الملتزم. من المؤكد أن التفكير التأملي يتطلب جهداً واهتماماً أكبر من مجرد التفكير الحسابي. ومن الممكن القول أن التفكير التأملي العميق يدخلنا إلى الحضور الالهي وكأنه يأتي بالإنسان وجهاً لوجه أمام الله حيث لا توجد عوائق ولا توجد جدران تفصله عن خالقه. وكأن داخل الإنسان مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالله أو روحه متعلقة تعلقاً سرياً مع روح الله وروح المسيح.

 

في المقطع الإنجيلي المقروء (مرقس 10: 35-45) يلجأ يوحنا ويعقوب إلى التفكير الحسابي. فهما يريدان تأمين حياة مستقبلية مريحة دون تعب عظيم أو تضحية كبيرة. يريدان أن يضمنا أنه متى ظهر المسيح بمجده يجلس الواحد عن يمينه والآخر عن يساره. وهكذا فهما يجريان الحسابات اللازمة ويأتيان إلى يسوع قائلين: "أعطنا أن نجلس واحد عن يمينك والآخر عن يسارك في مجدك".

 

من أكبر التجارب التي نواجهها، أحبائي، في حياتنا الإيمانية هي أن نقترب من الله بحساباتنا، معتقدين أنه يمكن أن نضمن الله بها أو نضمن أحكامه. قد نعتقد مثلاً أنه بصلواتنا الطويلة يمكننا أن نتحكم في مشيئة الله أو نغير من إرادته. وقد نظن أن عملا خيّرا نقوم به يمكن أن يفتح أمامنا أبواب السماء والحياة الأبدية. كأننا نقول: عمل + صلاة = حياة أبدية.

 

لكن الله، يا أحباء، ليس إله الحسابات، ولا هو يحسب أعمالَنا وأقوالَنا. وبالتالي لا يمكن لأعمالنا أو أقوالنا أن تقنع الله أو أن تسيّره حسب رغباتنا وأهوائنا. يردّ يسوع على طلب التلميذين ويقول: "لستما تعلمان ما تطلبان. أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا؟" وكأن المسيح يدعوهما إلى تفكير أعمق وتأمل أكبر فيما يقولان. فالكأس التي يتحدث عنها يسوع هي كأس آلامه الذي سيذكره فيما بعد وهو يصلي قبل موته: "يا أبا الآب كل شيء مستطاع لك. فأجزْ عني هذه الكأس ولكن ليكن لا ما أريد أنا بل ما تريد أنت" (14: 36).

 

أما الصبغة التي يشير إليها هي معمودية الموت التي سيتعمد بها يسوع في نهاية رحلته في أورشليم. على الرغم من أن يعقوب ويوحنا كانا من أقرب التلاميذ إلى يسوع، لكن يظهر أنهما لم يتذكرا كلمات يسوع، وخاصة أننا نقرأ في الإنجيل، وقبل سؤالهما ليسوع مباشرة، أن يسوع يتحدث لهم ثلاث مرات عن موته وقيامته، وقد قال لهم: "من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (8: 34). أن نشارك في ملكوت الله فهذا يفترض الآلام والموت. أي أن المسيحي عليه أن ينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبع يسوع.

 

لا يمكننا اليوم، إخوتي وأخواتي، أن نتحدث عن معنىً للحياة دون أن نفكر في حقيقة الصليب. لا يمكننا أن نعيش حقيقة دون أن نقبل حقيقة الموت ونكون مستعدين للقائه. أن يدرك الإنسان حقيقة الصليب فهذا يخلصه من حياة وهمية ويضع أمامه حقيقة الحياة وحقيقته الداخلية. فيدرك أنه بحساباته وخططه لن يستطيع أن يرث هذه الحياة ولا الحياة القادمة. بهذا المعنى يمكن القول أن التفكير التأملي يضعنا أمام حقيقة الصليب، إذ فقط آنذاك يتخلى الإنسان عن تكمّشه وتعلقه بأشياء هذه الدنيا، ويتخلى أيضا عن أفكار وآراء لطالما دافع عنها وتمسك بها دون القبول بالتنازل عنها.

 

رداً على سؤال يسوع يرد التلميذان ويقولان: "نستطيع". قد يبدو جواب التلميذين جواباً غير مسؤول وخاصة عندما نتذكر موقف التلاميذ الخائف والمتردد أثناء أحداث الصلب. أما يسوع فيكمل ويقول: "أما الكأس التي أشربها فتشربانها وبالصبغة التي أصطبغ بها تصطبغان. وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أُعدَّ لهم". فالتلاميذ بعد موت يسوع يُضطهدون ويستشهدون على مثال معلمهم. الآلام والموت لا مفرّ منهما، لكن لا يمكن ضمان الحياة الأبدية، أو أي نوع من المجد المستقبلي. لا يمكن لحساباتنا وخططنا أن تثبت أي شيء عن مجد أبدي ولا أن تضمن لنا مكاناً هناك. يسوع يوضّخ أنه لا يقدر أن يضمن لأحد الجلوس عن يمينه أو عن يساره في المجد الأبدي. هذا يذكرنا بمشهد الصلب، حيث يسوع على الصليب في الوسط وعن يمينه ويساره لصين مصلوبين. وقد يكون مجد يسوع تحقق هناك على الصليب وأما التلميذان فكانا فعلاً لا يعلمان ما يطلبان.

 

"تعلمون أن الذين يحسبون رؤوساء الأمم يسودونهم وأن عظماءهم يتسلطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. بل من أراد أن يصير فيكم أولا يكون للجميع عبداً". يُظهر يسوع للتلاميذ إمكانية عيش الإنسان بشكل مختلف عن ما يعلّمه العالم. ليس كما يتصرف الجميع أو يتكلمون، بل هناك طريقة أخرى للتصرف والحياة.

 

من المعروف أن رؤساء العالم يحكمون ويتحكمون بالشعوب، أما أنتم فلا تفعلوا مثلهم. الكبير فيكم ليخدم الصغير والأول ليقف آخر الكل. الحكيم فيكم ليتضع والقوي ليساعد الضعيف. هذا هو طريق الملكوت. ليست حساباتنا الشخصية وليست رغبتنا في المجد ولاشيء آخر قادر أن يضمن لنا مكاناً في الملكوت. طريق الملكوت مختلف عن طريق العالم. فالعالم الخارجي باختراعاته وأساليبه المزخرفة قد يجذب الإنسان، لكن فقط عندما يكبر الإنسان وينمو من جذوره ومن داخله يرتفع وقتها كالشجرة العالية ويصل الى السماء.

 

سيلفي أفاكيان- معمارباشي

March 3, 2013 عظة ألقيت في الكنيسة الانجيلية الوطنية في الحدث في [1]

 

 

 

"كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه، هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله". نأتي إليك في هذا الصباح، يا إلهنا، لأن أنفسنا عطشانة إليك. نأتي من همومنا اليومية، من أعمالنا وأشغالنا، من أحزاننا وخطايانا، لكن أيضاً من أشواقنا إليك ومن رغبتنا في أن نسمع صوتك. فأنفسنا لا تعرف الراحة إلا فيك ولا تجد أرواحنا الطمأنينة إلا في حضورك. نأتي إليك يا الله املأنا بشخصك فلا نتكبر بما عندنا ولا نتفاخر بعروش أو سيادات، بل بكل كلمة من كلماتك وشخص ابنك يسوع المسيح الذي باسمه نطلب فاستجب لنا.

 

الشعب: ننظر إليك يا يسوع المسيح، أنت رأس الكنيسة، كنيستَنا هذه جسدك ونحن كلٌ منا أعضاؤك. في شوقنا إليك اجعلنا يارب أن نتشبه بك، بمحبتك اللامنتاهية التي امتدت إلى حدود الموت. هكذا كانت محبتك للانسان ولله لا حدود لها ولا حسابات فيها. حياة بسيطة ملؤها المحبة وعمقها السلام وشكلها جمال إلهي ليس من صنع إنسان. إذ ننظر إليك اغسلنا يارب بنورك الإلهي. امح خطايانا. اغفر حساباتنا الكثيرة، السخيفة منها والجدية، فندرك أن قيمتنا في قبولنا للآخر، وفي محبتنا التي هي على مثال محبة المسيح فيتمجد اسمك في حياتنا وحياة الآخرين أيضاً. آمين {صلاة صامتة}

 

نأتي إليك اليوم يا يسوع المسيح لأنك صالحتنا مع الله بشخصك، بحياتك وموتك وقيامتك. كن لنا عوناً فنتبع خطواتك، نسير على درب المحبة ونتزين بالوداعة والتواضع كي تكون لنا حياة الملكوت ليس فقط رجاءً في المستقبل بل حقيقة نعيشها في حياتنا على الأرض. فيتمجد اسمك في حياتنا لأنك تستحق كل المجد والشكر. آمين. 

 

 

 

"كونوا أنتم أيضاً متسعين!"

 

2كورنثوس 6: 1-13

 

 

ظهر في الكنيسة، في منتصف القرن الأول، تباين في وجهات النظر عن عمل و ارسالية الرسول بولس. فالبعض كان يقبله رسولاً وآخرون كانوا يشكون في رسوليته. من بين المشككين أو المعارضين لرسولية بولس كان هناك اجماعأ حول نقطتين. بعض المسيحيين من أصل يهودي كانت لهم نظرة ايجابية في الشريعة اليهودية تفوق ماكان بولس يستسيغه. والقسم الآخر من المعارضين كانوا وعاظأ متنقلين وهم يهود هيلينيون (أي تبنوا اللغة والحضارة اليونانية وأغلبهم من يهود الشتات خارج فلسطين) يدّعون امتلاكهم للروح القدس المعطى لهم والذي من خلاله يقومون بمعجزات عديدة.

 

في كورنثوس بالذات اجتمعت هاتان الفئتان، أي اليهود المدافعون عن الشريعة واليهود الهيلينيون، وكانت على كنيسة كورنثوس أن تختار بين بولس ومعارضيه.

 

إذأ في رسالته الثانية لأهل كورنثوس يدافع بولس عن رسوليّته، ففي أماكن عديدة من الرسالة نصادف جيشانأ عاطفياً فيه الكثير من الاحساس بالأذى والظلم من الفئة المعارضة. في المقطع المقروء من رسالة كورنثوس الثانية يقول بولس: "لسنا نجعل عثرةً في شيء لئلا تلام الخدمة" وبعد قليل نقرأه يقول "بصيتٍ رديء وصيتٍ حسن، كمضلِّين ونحن صادقون، كمجهولين ونحن معروفون، كمائتين وها نحن نحيا". وكأنه يقول مهما أظهرنا أنفسنا كخدام لله، مهما تحملنا من الضيقات والضربات والسجون والاضطرابات لا مفر من أن يساء فهمنا. فنجده يختم المقطع بقوله: "فمنا مفتوحٌ إليكم أيها الكورنثيون، قلبنا متسع... كونوا أنتم أيضاً متسعين!"

 

ما أريد أن ألفت نظركم إليه في هذا الصباح هي حقيقة لازمت الرسول بولس في سنين خدمته وقد لازمت من قبله يسوع المسيح وحتى أنبياء العهد القديم، والحقيقة التي أتحدث عنها هنا هي اجتماع القيم المتباينة والمتعارضة وظهورها واختبارها معا في حياة المسيحي. فالمجد يلازمه الهوان والصيت الحسن يلازمه الصيت الرديء، والصدق يلازمه الضلال، والعلم يلازمه الجهل والحياة يلازمها الموت.

 

هل من طهارة ممكنة في هذه الحياة؟ هل من علم وأناة ولطف ومحبة وصدق دون أن تتشوه أو تختلط كل هذه بنقيضاتها؟

 

فالمسيحي يختبر في حياته أنه مهما كانت أفعاله حسنة ونياته طيبة، كثيرا ما تُفسَّر هذه الأعمال والنيات بما هو عكس حقيقتها. وفي هذا للمجتمع دور كبير. في مجتمعاتنا الشرقية خاصة، حيث تغيب الحقيقة والموضوعية ويسيطر عليها جو المنافسة والتعصب والحسد وتفضيل الذات على الآخر، غالبا ما يُصوَّر عمل الخير بنقيضه. ومن يدافع عن الحق لا محل له إن لم يدافع عن حقيقة جماعة معينة ضد جماعة أخرى. فغير المتحيّز لا مكان له.

 

لا يمكن للانسان، إخوتي وأخواتي، أن يوجد إلا عندما يستطيع أن يخرج من الدائرة العائلية والاجتماعية المغلقة. فالعلاقات الانسانية، على أهميتها، قد تعيق إحساس الفرد بالمسؤولية وقدرته على مواجهة الحياة والموت.

 

فالانسان يولد كفرد ويموت كفرد، اذ لا يمكن لأحد أن يمثّل آخرَ في ولادته ولا في موته، مهما كانت نوع قربته إليه. فلا تأثير للعلاقاتية على أعمق مستويات الوجود أو في أهم لحظاته.

 

قد يتجنب الانسان حقيقة الموت لاعتقاده أنه قد يحدث للآخرين ولكن لا يستطيع أن يتقبله في حياته وقد يتجاهل أنه منذ ولادته مهيأ للموت وقد يأتي إليه في أية لحظة. ومن يتجاهل الموت يتجاهل الحياة والحقيقة، والمسؤولية تجاههما.

 

والسؤال الهام هنا هو: هل الجماعة أهم من الحقيقة؟ وقد نتساءل كلنا، في الظروف الحالية للمنطقة، عن الأسباب التي تجعل شباباً في أحلى سنوات حياتهم يقومون بأعمال انتحارية لأهداف يعتقدونها سامية. هل تعمي الجماعة الانسان إلى هذه الدرجة؟

 

هذا هو الوجه السلبي للحقيقة التي أشرت إليها قبل قليل أي اجتماع قيم أو أحاسيس متباينة معاً وظهورها في حياة المسيحي، حيث يختبر الإنسان الصيت الحسن والرديء، المجد والهوان، وقد يُعرف بالمضِّل وهو الصادق، كما يقول بولس. ولكن حينما يستطيع الإنسان مواجهة هذه الحقيقة بالتحرر من ترقب المجتمع وضغوطاته يكتشف المسيحي وجهاً ايجابياً أساسياً في كل هذا. فكلما واجه الإنسان ظلم المجتمع وتقبّله، أي تحرر من وطأة هذا الظلم في داخله، كلما استطاع أن يفهم ويختبر قول الرسول: "كحزانى ونحن دائماً فرحون، كفقراء ونحن نغني كثيرين، كأن لاشيء لنا ونحن نملك كل شيء".

 

كلما تحرر الانسان من ضيقه اقترب من وساعية الله. فكلمة "وسع" أو "واسع" اسم من أسماء الله في الاسلام وفي لسان العرب تُشرح الكلمة على أن الله هو الواسع "الذي وسِعَ رزقه جميع خلقه و وَسعت رحمتُه كل شيء وغِناهُ كل فقرٍ". فالسعة "نقيض الضيق" وللمفارقة يقول بولس وهو يتحدث عن ضيقاته "قلبنا متسع.. كونوا أنتم أيضاً متسعين!"

 

فالوساعية ليست إلا نتيجة تواضع الإنسان ليفسح المجال للغير في حياته. هذا التواضع يحرر الإنسان من انكماشه في مجابهة الضيقات وكأنه يرضى أن يكون مكشوفاً للحقيقة، لا يخافها. لا تطوِّقه الحواجز ولا تكبحه القيود وقد تخلى عن كل تحفظاته وبالتالي فهو متقبل لكل الاحتمالات، مستعد لما يصادفه في الحياة. فيصير الانسان عرضة للانتقادات، مباحاً للانتهاكات، لا يتأثر بها إذ تحرر من ضغطها. سخرية الناس لا تعود تهمّه بقدر ما يهمّه أن يجمع شمل الناس تحت سقف سماء زرقاء صافية لا تشوبه الغيوم ولا تعكره الرعود.

 

وقد قرأنا في انجيل مرقس الاصحاح الرابع: 35-41 حيث يهدّئ يسوع العاصفة وينتهر الريح ويُسكت البحر.

 

إن لوحة H Varghese "تسكين العاصفة" تعبّر بشكل مميز عن حقيقة تأملاتنا اليوم. فالعاصفة والأمواج أمام التلاميذ ومن حولهم، أما حيث يقف المسيح فهناك الروح والنور والبحر الساكن. وكأن النور لا يظهر إلا عندما يؤتى به الى العتمة، والحقيقة لا تتضح إلا بعد انقشاع الجهل، والقيامة لا تتجلى إلا من خلال الصليب.

 

اليوم رجاؤنا إخوتي وأخواتي أن ينقلنا المسيح مع تلاميذه من جو الاضطراب والبلبلة إلى سلام وسكون وحضور إلهي. رجاؤنا أن يرفَعنا المسيح من كل الضيقات التي نمرّ بها، من كل الشدائد والاضطرابات إلى سلام حقيقي فتتسع قلوبنا بعضنا لبعض ونكون على صورة خالقنا.

 

سيلفي أفاكيان معمارباشي

 

National Evangelical Church of Hadath

 

2012

 

 

 

 

درب الصليب

 

يوحنا 18:28- 19:8

 

حياتنا هذه المسيحية ليست إلا سيراً في درب الصليب. وقد أخذنا هذه الحياة عن السيد الذي سار هو أولاً، وما علينا إلا السير وراءه، إذ ليس من مجدٍ دون ابتئاس، ليس من فرحٍ دون انسحاق القلب، ليس من قيامةٍ دون صليب ولا من تعزيةٍ دون الانكسار الكامل.

 

لكن كيف للانسان أن يقبل الصليب؟ من أين له قوة المسيح؟ كيف له أن يقبل اكليل الشوك والآلام، أن يحمل تهكمات الحراس وسخرية الجمع؟ كيف له أن يتحمّل الوحدة على الصليب؟ كيف يرضى الانسان أن لا يكون شيئاً في هذه الحياة؟

 

هذا هو الصليب، إخوتي و اخواتي الأحباء: التنازل الكامل. التنازل الكامل حتى عن الوجود. ولكن أليست حياتنا كلها صراعات من أجل الوجود؟ ألا نتخاصم ونتصالح، ألا نفرح ونحزن، ألا نخطط ونمهّد ونعمل من أجل وجود أفضل وحياة أرقى؟ أين الصليب إذاً وما مكانه في كل هذا؟

 

يقول الرسول بولس في غلاطية 6: 14 "وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ."

 

في كلمات الرسول هذه تكمن معظم الصراعات الانسانية الروحية. فالآية تقول أنه بصليب المسيح "صُلِبَ الْعَالَمُ" للرسول وهو صُلبَ " لِلْعَالَمِ". هناك إذاً من صليبين. صليبٌ نَرفعُ عليه العالمَ في داخلنا وبه نخلي حياتَنا وأعماقَنا من كل أنانية وشغف بالذات والعائلة، من كل الامجاد والانتصارات التاريخية، من نزواتنا وأهوائنا، من مناصبنا وشهاداتنا الفخرية وحتى من معارفنا العلمية والعملية لنمتلئ بالله وملكوته السماوي.

 

ولكي نفهم معنى الصليب هذا لا بدّ أن نعود إلى ردّ يسوع المسيح لبيلاطس الذي كان يحاكمه على طلبٍ من رؤوساء اليهود٬ اذ قال: "مَملكتي ليسَت مِن هذا العالَم". فالانتصارات والأمجاد لا تمتُّ بملكوت الله بشيء وهذا ما يضفي على المسيحي نظرةً متميزةً للعالم، يغيب فيها الاستئثار والاستبداد بالأشياء، بل تدعو إلى تجرد كامل من سلطة هذه الأشياء عليه.

 

أما الصليب الثاني فهو الذي نرتفع عليه نحن حبّاً للعالم. يقول بولس أنه بصليب المسيح قد صُلِبَ هو "لِلْعَالَمِ". أن يُصلَبَ الانسانُ للعالم هذا يفترض محبةً وتضحية ًكبيرتين. هذا يوجب أن يحب الانسانُ العالمَ، أن يحب العائلة والأولاد، أن يحب الوطن والأرض. أي أن يحب الانسان أخاه الانسان محبةً حقيقية. وحدها هذه المحبة ترفع الانسان على الصليب.

 

هذا هو صراع الانسان وهذه هي المعضلة الروحية الكبرى التي نواجهها في حياتنا. فمن جهة "نحن لسنا من العالم"، ومن جهة أخرى نحن مدعوون إلى أن نحب هذا العالم بمحبة حقيقية لا رياء فيها ولا تدليس. بالمعنى الأول للصليب يفضّل المسيحي الابتعاد عن العالم إذا لا يجد فيه مبتغاه ولا يحقق به حريته المنشودة التي وهبها الله له في المسيح معتقاً كل عبودية وكل محدودية. فلا يبقى للانسان شيئاً، لا نفوذ ولا سلطة، لا جمال ولا غنى، وفي هذا اللاشيء يتكون الانسان حقيقةً على صورة المسيح المصلوب. وبالمعنى الثاني للصليب وفقط بعد أن يتحرر الانسان من ذاته يكون قادراً على محبة الآخر. يكون قادراً أن يعطي وهو الفقير، قادراً ان يحب وهو المنبوذ، وقادراً على أن يسامح، لا و بل أن يرفع الآخر إلى مجد الآب السماوي.

 

في المحبة وحدها وبها فقط يعيش الانسان. يسعى من أجل حياة أفضل، يعمل ويبني ويغلب الشر بالخير الذي هو الصليب عينه. هذا كان صراع يسوع المسيح وكأن بيلاطس يشير الى هذه المعضلة (dilemma) بقوله عن يسوع الذي خرج من دار الولاية وهو "حامِلٌ إكليلَ الشوكِ وثوبَ الارجوانِ": «هُوَذَا الإِنْسَانُ!». فمملكته ليست من هذا العالم ورغم ذلك هو يحب العالم، لا بل يرتفع من أجله على الصليب.

 

كلما واجهنا واختبرنا هذه المعضلة في حياتنا وكلما اختبرنا الصليب بمدلوليه المختلفين كلما زادت وحدتنا بالذي بذل حياته على الصليب وبه كان خلاصنا. هذه المعضلة ترافقنا في كل حياتنا المسيحية إذ نتأرجح بين الصليب والآخر على رجاء القيامة.

 

 

 

سليفي أفاكيان - معمارباشي

 

8 آذار 2012

 

 

 

رجاء الايمان[1]

 

مَثل الفَعَلة في الكرْم

 

)متى 20: 1-16(

 

مَثل الفَعلة في الكرم مَثل غريب، يصعب علينا فهمه تماماً. ويبدو لي أحياناً أنه مثل مربِك. المشكلة ليست فقط في غموض معنى المثل بل هي تكمن بالذات في المعنى الذي نستخلصه من قراءة المثل. معنى المثل اذاً هو المربك وكأنه دائما يوبخنا ويظهر محدودية قناعاتنا ومدى سطحية آرائنا التي قد نكون بنيناها خلال سنوات طوال من حياتنا.

 

هذا المثل يتحدث عن ملكوت الله، وقد نستنتج هذا من غرابة أحداث المثل. فلا صاحب كرمٍ عادي يفعل ما يفعله صاحب الكرم في هذه القصة. لنعد الى بداية المثل، وكما العادة هنا أيضا يقف العمال في الساحات أو على تقاطع الطرق وهم ينتظرون أن يستأجرهم أحدهم للعمل. خرج صاحب الكرم صباحأ[2] و استأجر أول عماله واتفق معهم على أجر يومٍ، دينار واحد، وهو أجر العامل اليومي المألوف آنذاك. ثم خرج نحو الساعة الثالثة، أي بتوقيتنا نحو الساعة التاسعة صباحاً، فالساعة السادسة، و التاسعة، وأخيراً خرج نحو الساعة الحادية عشر أي الساعة الخامسة مساءً حيث اختار فيها آخر العمال ليعملوا في كرمه. العمال الأولون عمِلوا نهاراً كاملاً أي اثنا عشرة ساعةً أما العمال الآخِرين فعملوا ساعةً واحدة أي بين الخامسة والسادسة مساءً. وقد نفكر نحن أيضا أن العدل يقضي أن يتقاضى كل عامل حسب عمله. ولكن يفاجئنا صاحب الكرم بمعاملته للكل معاملةً مماثلة، فالكل أخذ ديناراً واحداً. بل ونقرأ أيضاً أن صاحب الكرم دفع للآخِرين قبل أن يدفع للأولِين، حيث خاطب وكيله قائلاً: "ادعو الفَعَلة وأعطهِم الأجرةَ مبتدأً من الآخِرين إلى الأولين". عقدة المثل تكمن في هذه الجملة. لكن ما معناها؟ لماذا صاغها انجيل متى بهذا الشكل الغريب؟ كانت المشكلة كلها تنحل لو لم يذكر صاحب الكرم الجزء الأخير من الجملة: "مبتدأً من الآخِرين إلى الأولين". أي لو دفع الوكيل الى الفَعلة الأولين قبل الفعلة الآخِرين. إذ كانوا سيقبضون أجرهم ويغادرون دون أن ينتبهوا الى أجر الآخِرين. لمَ هذا التعقيد وهذه الحبكة؟ هذه الجملة تقلب توقعاتنا، تقلب مفهومنا للعدالة بل وحتى تقلب آمالنا في الحياة.

 

من الضروري القول هنا أن هذا القلب أو هذه الشقلبة في المفاهيم هي جزء أساسي من لاهوت العهد الجديد. هذا هو تماماً ما عبّر عنه بولس الرسول عندما قال: "لا يخدعَنَّ أحد نفَسه. إن كان أحدٌ يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر، فليصرْ جاهلاً لكي يصيرَ حكيماً. لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله" (1كو3: 18-19). من المهم يا إخوتي وأخواتي أن يستطيع الانسان التمييز بين الحقيقة وبين احتكاره للحقيقة. الحقيقة تبقى دائماً ولكن سرُّ بقاءها يكمن في كونها متاحة ومتوافرة وفي متناول الجميع. لا يمكن للحقيقة أن تُمتلَك بالمطلق أو أن تُستأثَر. لا يمكن لها أن تنحصر بطابعٍ أو قالبٍ معين في زمانٍ ومكانٍ محدودين. فكل احتكار أو استئثار للحقيقة هو مناقضٌ لها.

 

قد نبني في حياتنا الروحية أو العملية الكثير من الخبرات الجيدة والمفيدة. وقد نقرأ الكثير ونتعلم ونستحوذ على قدر كبير من الحكمة الحياتية أو الفلسفية ولكن هذه الحكمة وهذه الخبرات تتشقلب وتنعكس في اللحظة التي نعتقد فيها أننا قبضنا على الحقيقة بمعرفتنا وحكمتنا. هذا شيء في غاية الحساسية. اذ هناك فرق بسيط جداً بين ادراكنا للحكمة التي في حوزتنا وبين اعتقادنا بأننا الوحيدين الذين نرى الحقيقة بأسطع وجوهها دون غيرنا. قد نعتقد بأن العمل الطويل والخبرة والمعرفة هي لنا بمثابة امتيازات credits وهي تجعلنا من الأولين، فننزعج عندما نرى آخَرين ليست لهم خبرةً أو معرفةً تقارب معرفتنا وخبرتنا ولكنهم يكافَؤون مثلنا وربما أكثر منا. وقد ننظر الى ما يفعله الآخَرون نظرة استخفاف وقد نريد أن نمنعهم من القيام بعمل ما بطريقة مختلفة عن الطريقة التي اعتدنا عليها أو تعلمناها خلال سنين طويلة. هذا بالضبط ما عبّر عنه الفَعلة الأولِين عندما تذمّروا على رب البيت قائلين: "هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة، وقد ساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر".

 

رداً على تذمر أحد العمال قال صاحب الكرم: ".. إني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك.. أم عينك شريرة لأني أنا صالح؟" سؤال صاحب الكرْم يذكرنا بسؤال الله للنبي يونان في العهد القديم: "هل اغتظت بالصواب؟"(يون4: 4) كان الله قد طلب من يونان أن يذهب الى مدينة نينوى ويكلم أهلها بما يوصيه الله. أما هو فرفض وهرب من وجه الله لاعتقاده أن رحمة الله ومحبته تخص الشعب اليهودي دون غيره. وخاصة أن نينوى كانت عاصمة بلاد الآشوريين أكبر أعداء اليهود آنذاك. عندما رأى يونان أن أهل نينوى تابوا وآمنوا حزن واغتاظ كثيرا فأعدّ الله نبتة لترتفع فوق يونان لتكون له ظلاً على رأسه وفي اليوم التالي أعدّ الله دودة لتضرب النبتة فيبست. حزن يونان على النبتة، فقال له الله: "أنت شفِقتَ على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربيتها، التي بنت ليلةٍ كانت وبنت ليلةٍ هلكت، أفلا أشفق أنا على نينوى..؟"

 

أحبائي، محبة الله لا توقفها أعمالُ الناس ولا تعيقها تصرفاتُهم. لا هي انجازاتُنا التي تُكسبنا محبة الله ولا هي أعمالُنا التي تضمن لنا الخلاص أو الهناء السماوي. ليس بالأعمال خلاصُنا. أما عندما نعمل الخير ونحب ونخدم بعضنا بعضا فإنما نفعل ذلك لأننا في الخير و الصلاح نجد أنفسنا حقيقةً دون زيفٍ أو تصنع.

 

هذه هي المفارقة المسيحية، أحبائي، فقط عندما نستطيع أن نقبل بالايمان نعمة ومحبة الله التي تشمل الكل، فقط عندما نعترف بجهلنا ونستطيع أن نستغني عن احتكارنا للحقيقة، وقتها نتعلم أن نسير وراء السيد الذي أخذ صورة العبد ووضع نفسه وأطاع حتى الموت. فقط عندما نقبل بالتواضع أو التنازل أي فقط عندما نكون على طريق الصليب ندرك مدى غنى، عمق ووساعية المحبة الالهية التي تغمر حياتنا، فنكون حقيقةً من الأولين.

 

فكرة الموت هنا أساسية. يقول بولس الرسول : "لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح" (في1: 21). ليس من الهين على الانسان أن يعترف بحقيقة الآخَر. ليس من الهين أن يتنازل الانسان ويقبل لذاته دوراً ثانوياً، أي أن لا يكون الأول. في داخلنا نعتقد دائما بأننا نحن الأولون أو على الأقل من الأفضلِين. أما فكرة التواضع والتنازل تفترضان ان يموت فينا تفاخُرنا و تتلاشى محبتُنا لذاتنا.

 

ما أريد أن أقولَه اليوم أن ايماننا المسيحي يفتح أمامنا باباً ولو صغيراً للرجاء. هذا الرجاء هو الذي يجعلنا فرحين في وقت الضيق، متسامحين في وقت الظلم، آملين خلاص الكلّ وحتى "غير المؤمنين" بعدلٍ وحكمةٍ ومحبةٍ إلهية لا نفهمها، و أخيراً متواضعين غير مستكبرين ونحن في أعلى مواقع النفوذ والسلطة.

 

 

 

سيلفي أفاكيان- معمارباشي

[1] عظة ألقيت في الكنيسة الانجيلية الوطنية في الحدث في 18.09.2011

 

[2] أشير هنا الى أن اليوم، في فترة العهد الجديد، كان مؤلفاً من اثنا عشرة ساعةً و كان يبدأ حسب توقيتنا في الساعة السادسة صباحاً.

 

 

 

 

 

أحد الثالوث[1]

 

متى 28: 16-20

 

"باسم الآب والابن والروح القدس" صلاة قصيرة تعلمناها من الرب يسوع المسيح ونرددها في الكنيسة في بداية صلواتنا ووسطها ونهايتها. وهي تعليم يظهر عقيدة الثالوث كتعليم اساسي ضروري في الكنيسة والايمان المسيحي. تقوم هذه العقيدة أساساً على الاعتراف باسم الآب والابن والروح القدس. لكن ما معنى أن نؤكد إيماننا بالثالوث – الآب والابن والروح القدس؟ ولماذا نؤمن بالثالوث؟ ما أهمية هذا الايمان لحياة الكنيسة؟ ما الميزة الذي يضيفها هذا الايمان إلى حياة الفرد والجماعة المسيحية؟ وما النقص الذي يصيب الكنيسة إذا فقدت تركيزها على الثالوث؟

 

كُتبَ عن هذه العقيدة لاهوت ضخم ودارت حولها جدالات لا حصر لها، وليس الآن وقت للدخول فيها. لكن لا بد من القول بأن هذه العقيدة لم تُشرح بشكل مفصّل أو بشيء من الوضوح إلا في القرن الثالث الميلادي مع القديس ترتوليانوس. وهو الذي نحت لنا عبارة "الثالوث". ومن ثم ُثبّتت وأُقرّت في قانون الايمان الموضوع في المجمع المسكوني الأول، والذي نردده في كل يوم أحد بعد العظة. أما تخصيص يوم الثالوث أو أحد الثالوث في الكنيسة – الأحد الأول بعد العنصرة – جاء في القرن الرابع عشر مع البابا يوحنا الثاني عشر. والاصلاح الانجيلي العام حافظ على هذا اليوم في التقويم الكنسي. ونحن اليوم نجد الكثير من الاشارات إلى الثالوث في الترانيم والاعترافات الانجيلية التي تؤكد هذا الايمان. قبلت الكنيسة الانجيلية ما فسرته الكنيسة الجامعة والآباء حول هذه العقيدة بالحكمة المعطاة لهم. المسيحيون ليسوا منقسمين اليوم في هذه العقيدة ومدلولهم جميعا واحد في الايمان.

 

إن قلتُ أن ترتوليان وضع التعبير والمجامع المسيحية أقرته لاحقاً، يبقى تعبير الثالوث لغة هدفها التأمل. التأمل في حقيقة لاهوتية تخص جوهر الله وكيانه.

 

يمكن القول أن عقيدة الثالوث كمعظم العقائد اللاهوتية هي عقيدة تستوجب استمرارية التفكير فيها وشرحها بمفاهيم وكلمات وتعابير آنية وعدم الاكتفاء بالتعابير والتفاسير التقليدية رغم أهميتها وخاصة التاريخية. فعقيدة الثالوث بحد ذاتها تشرح لنا نحن البشر حقيقتنا التي يجب عليها أن نكون عليها، وهي تشير إلى الضعف الانساني وإلى محدودية الحياة الانسانية وإلى التناقضات الكثيرة التي نواجهها في الحياة. وكأنها تجيب أو تلقي الضوء على الحالة البشرية بهدف رفعها من غموضها ومن الضعف الذي يعتريها.

 

بالرغم من حقيقة الموت الا أن الانسان يعرف ويبحث عن معنى الابدية منذ القدم. فبالرغم من هذا الضعف الحقيقي والمحدودية والتناقضات الهائلة في الحياة تعلّم عقيدة الثالوث أن الانسان يجد في الله الآب والابن والروح القدس أجوبة عن وحلولا لأسئلته اللاهوتية والحياتية. رغم محدوديتنا نحن البشر، فنحن أبناء لاله هو آب سماوي أبدي وأزلي، لا حدود له ولا هو صاحب مستعمرات صغيرة أو كبيرة، بل هو آب للجميع، لجميع البشر حتى للكون برمته. أما نحن فأبناؤه وبناته.

 

بالاضافة إلى حقيقة محدودية الحياة يصادف الانسان في حياته الكثير من الصعوبات والتجارب التي يتصارع طويلا بسببها وفي أحيان كثيرة قد يقلق منها لدرجة أنه يتساءل مرارا عن معنى لحياته وهو يرى ويختبر زوال المعنى وتدهور القيم الانسانية في مجتمعه. فالعداوة وكره الانسان لأخيه الانسان وفقدان المصالحة الحقيقية والمسالِمة بين البشر، هذه كلها يعاني منها الانسان، وهذه هي مشكلة التغرّب، فالانسان قد تغرب عن إلهه وعن الآخرين بل وقد تغرب حتى عن ذاته. أما يسوع المسيح، الاله الابن، فقد عانى تماما كأي انسان آخر. تصارع يسوع وقاوم الشر، قلق كأي واحد منا من الموت وصلى قبل أن ينصلب قائلاً: "الهي الهي لماذا تركتني".

 

نعم شاركنا يسوع في كل شيء، شاركنا كل تجاربنا ومحننا، شاركنا في كل الهموم الانسانية، وهذا هو بالضبط معنى "الله معنا". هذا هو معنى التجسد. أي "الكلمة صار جسدا وحل بيننا".

 

أما يسوع بالرغم من كل المحن والتجارب الا أنه لم يصل الى حالة التغرب التي نعاني منها نحن. بقي ابنا مطيعاً لأبيه، انسانا كاملا أمينا لانسانيته ولأخيه الانسان. محبا، عطوفا وغفورا لكل الناس. صالح يسوع بموته على الصليب الانسان مع أخيه الانسان، وصالحه مع الله وحتى مع نفسه. فالله في المسيح ليس بعيدا عن كل واحد وهذا هو تعليم عقيدة الكريستولوجيا.

 

أما الاقنوم الثالث في عقيدة الثالوث فهو اقنوم الروح القدس. والروح في حقيقة الأمر هو الوحيد القادر على اخراجنا من كل غموض، محدودية وتناقضات الحياة. الروح القدس هو نفسه الله الروح الموجود في المسيح ومن خلاله في الكنيسة وفي الشخص المسيحي. الروح القدس هو روح الله المتعلق مباشرة بروح الانسان، أي أنه على علاقة مباشرة بالانسان. فروح الله هو الذي يخلق فينا كل امكانية للشفاء، كل فرصة للخروج من حالة التغرب والرجوع الى حقيقتنا التي خُلقنا عليها. وكذلك الروح القدس هو الذي يقوي فينا الايمان، وينير طريقنا ويعطينا القدرة كي نختبر وجود الله الحقيقي معنا.

 

إن حقيقة وجود الروح القدس معنا تعلّمنا بأن الجنس البشري ليس متروكا وحده. فالروح يرافق الانسان في كل خطوات حياته ويخلق فيه امكانية الرجوع والمصالحة مع الله والآخرين في لحظات هي أشبه أن تكون اقتحامات سماوية في حياتنا الارضية. بهذا المعنى الروح القدس هو نفسه روح المسيح فينا أي أنه بالروح نستطيع أن نكون خليقة جديدة في المسيح.

 

عقيدة الثالوث إذا، التي تعلمها الكنيسة، الآب والابن والروح القدس، هي عقيدة شاملة عن الله ترمز إلى محبة الله اللامحدودة. محبة الابن وحضور الروح مع الانسان. صفة الشمولية هذه هي المهمة في عقيدة الثالوث وليس كونها لغزا أو اختراعا فلسفيا متمحورا حول كون الثلاثة واحد والواحد ثلاثة. الأرقام هنا ليست مهمة. ولسنا نحن اليوم أمام لغز علينا حله بل نحن أمام حقيقة الله أي كونه محبة. ونحن نعرف معنى المحبة من خلال خبرتنا البشرية، اذ تفترض المحبة أن يخرج الانسان من ذاته الى الآخر وثم يعود الى ذاته والرقم 3 موجود ضمنا في علاقة المحبة هذه.

 

اننا في كل مرة نردد فيها أو نسمع فيها كلمات بولس الرسول التي تقول: "نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله الآب، وشركة الروح القدس" في كل مرة نسمع أو نردد هذه البركة نؤكد فيها ايماننا بمحبة الله الشاملة لنا وفي نفس الوقت نتعهد بأن نعيش كأولاد وبنات حقيقيين لاله المحبة. هذا هو عمق الايمان المسيحي، فالانسان لا يكتمل ولا يحقق ذاته الا عندما يستطيع أن يحب، والمسيحيون ليس لهم قوة على الأرض سوى قوة المحبة.

 

فخذوا أيها الأحباء هذا الايمان بالثالوث معكم إلى العالم وتسلحوا بالمحبة لأن بها خلاصنا وبها نستمرّ. فـ "المحبة لا تسقط أبداً".

 

 

سيلفي أفاكيان- معمارباشي

[1] عظة ألقيت في الكنيسة الانجيلية الوطنية في الحدث في أحد الثالوث 19 حزيران 2011

 

 

 

 

المرأة السامرية[1]

 

لن أدخل اليوم في التفاصيل التاريخية لقصة المرأة السامرية ولن أدقق في الجدل القائم بين اليهود والسامريين في تلك الأيام. ما أريد التركيز عليه في هذا الصباح هو إلقاء الضوء على التمايز الموجود في هذا المقطع بين نوعين أو طريقتين أو اسلوبين مختلفين لفهم الحياة، وفهم الانسان والله. انجيل يوحنا بشكل عام يشير إلى هذا التمايز أو الاختلاف بين الأرضي والسماوي، بين الجسد والروح، بين الظلمة والنور. في هذا المقطع نرى هذه الازدواجية فيسوع يتكلم عن معنى روحي للاشياء بينما المرأة السامرية وكذلك التلاميذ يفهمون قوله كإشارة لما هو مادي وأرضي.

 

قال يسوع للمرأة السامرية: "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد". كيف يمكن أن نفهم قول المسيح هذا؟ ما هو الماء الذي يعطيه لنا المسيح فنشربُه ولا نعطش بل الماء الذي فينا يصير "ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية"؟

 

أعتقد أننا كالمرأة السامرية نريد أن نقول ليسوع: "أعطني من هذا الماء لكي لا أعطش". كلنا بحاجة إلى الماء الذي يروي عطشنا. كلنا نريد هذا الماء الذي يشفي النفس، ويرفع الحياة. كلنا نريد هذا الماء الذي يغسل آثامنا ويخلق في داخلنا قلباً نقياً وروحاً مستقيماً. لنبدأ بالماء الذي يتحدث عنه يسوع.

 

لكن ما هو هذا الماء؟ وأين نجده؟ كيف نأخذه ونشربه؟ وهل استطاعت المرأة السامرية أن تفهم معنى الماء الذي تحدث عنه يسوع؟ قال يسوع بأنه هو الذي يعطي هذا الماء. كيف حصل يسوع على هذا الماء؟

 

اريد اليوم أن أقترح، إلى جانب تفاسير أخرى لكلام يسوع، أن هذا الماء هو الطاعة الكاملة لله. كيف حصل يسوع عليه؟ حصل عليه بالطاعة الكاملة لله. ما معنى هذا؟

 

هذا معناه أن يفرغ الانسان نفسه من ذاته ويفسح المجال لله كي يملك على قلبه وحياته. هذا ليس بالأمر الهين. هذا فيه الكثير من التواضع وانكار الذات وفيه الكثير في النظام الروحي spiritual discipline الذي يعلمنا كيف نكبر وننمو في الروح.

 

قد ترافق مسيرتنا الروحية اختبارات الفشل والسقوط، ولكن على الانسان أن لا ييأس. فبرغم عمق ما يتركه الفشل والسقوط من آثار في نفس الانسان، فإن نعمة الله تصل إلى هذه الأعماق الانسانية وترفعها من جديد إلى مجده السماوي.

 

نقرأ في مزمور 31: "من الأعماق صرخت إليك يارب. يارب اسمع صوتي، لتكن أذناك مصغيتين إلى صوت تضرعاتي". فنعمة الله أعمق من كل أثر يتركه الفشل أو السقوط. هذه الحياة الروحية هي بالضبط ما يركز عليه فصل الصوم الذي نحن بصدده. بعض المفسرين قالوا بأن ماء الحياة الذي يعد المسيح باعطائه للمرأة هو الروح القدس الذي يعطي الحياة الأبدية (توما الأكويني أشار إلى نعمة الروح القدس كونه ينبوع النعمة).

 

أما بحسب ما أقترحه اليوم هو أن هذا الماء الذي يتحدث عنه يسوع هو الطاعة الكاملة لله، وهذه الطاعة غير ممكنة إلا بنعمة روح الله. بالطاعة الكاملة لله يقول الانسان: "لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك يا الله". بالطاعة الكاملة يسكن الله في الجسد البشري وينقله من عالم المحدود إلى ملكوت الروح اللامحدود.

 

يقول الانجيلي في العدد 24: "الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا".

 

أما الطريقة والاسلوب الآخر لفهم الحياة والله والانسان هو إذن الاسلوب المادي والبشري الذي يرى ما تراه الأعين البشرية ويفعل ما يفعله الناس وقد حركتهم رغباتهم الشخصية وطموحاتهم البشرية.

 

لم تستطع المرأة السامرية في القصة ولم يستطع التلاميذ فهم ما قاله يسوع لهم.

 

كان يسوع يتكلم عن الماء وعن الطعام بأنهما يعبّران بالحقيقة عن عمل مشيئة الله. هذا نفسه ما قاله يسوع عندما جربه الشيطان في المرة الأولى: "ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله". أما هنا نقرأ قول يسوع: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله".

 

أما المرأة السامرية فركزت على الماء، بئر يعقوب، والخلاف الطويل بين السامريين واليهود عن المواضع التي ينبغي فيها السجود. فالسامريون كانوا يعتقدون بأن السجود في جبل جرزيم بحسب ما ورد في كتاب التوراة (تث11: 29) بينما اليهود كانوا يعبدون في أورشليم بحسب ما أتى في كتب الأنبياء. وأكثر من هذا فقد تمنّتْ لو تحصل على هذا الماء السحري الذي يغنيها عن الذهاب كل مرة إلى البئر. هل عند هذا الغريب القدرة على اعطائها ماء كهذا؟

 

والتلاميذ ركزوا على الطعام الذي يحتاجه الجسد الانساني ولم يفهموا قصد المسيح. كيف نخرج من محدودياتنا هذه؟ كيف نرى ما هو أبعد من المرئي، وما هو أعمق من الخيالات الانسانية، وما هو أكثر من الطعام اليومي؟

 

حياتنا ليست إلا دوراناً حول الذات وحول الأنا.

 

كيف نبحث عن الله في حياة من الصعب فعلاً أن نجده فيها؟ كيف نعيد للانسان كرامته ومجده الحقيقي فيصير فيه "ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية"؟ أيها الأحباء، لا أريد هنا الفصل بين الانساني والالهي. فليس الالهي المحض ما نتكلم عنه، فمن يستطيع أن يتكلم عن الله دون أن يستعمل اللغة البشرية. وليس الانسان المحض الذي نقول بأنه مادي. فالله لا يُظهر لنا ذاته إلا بواسطة ما هو انساني، والانسان في الحقيقة هو انسان على صورة الله. وقد وضع الله من روحه ونَفَسِه في كل انسان ليرقى الانسان بهذه الروح إلى خالقه وصانعه.

 

إذن الفصل هنا ليس بين الالهي والانساني بل هو بين اسلوبين مختلفين لفهم الله والانسان والحياة كما قلت في المقدمة.

 

أما يسوع فيحاول أن يشرح للمرأة عن ملكوت الروح، ويردّ عليها بما يشبه رده على أمه في الاصحاح الثاني من الانجيل إذ قال: "ما لي ولك يا إمرأة. لم تأتي ساعتي بعد". وهنا يقول: "يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب". ثم يقول: "تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق".

 

الساعة إذن تأتي ولكن هي أيضاً الآن. وبهذا التعبير يجمع الانجيلي بين الحاضر والمستقبل. فالخلاص يبدأ هنا بعمل المسيح ويصل إلى أوجه في الصليب والقيامة.

 

في فترة حياة يسوع كان هيكل اليهود لا يزال على جبل صهيون بينما المعبد في جرزيم كان قد خُرّب منذ زمان طويل (سنة 128 ق.م) يسوع إذن يتحدث في هذه القصة كنبيّ يوجه كلمات ثورية بشأن العبادة الحقة لله بالروح. أما عندما كتب الانجيلي القصة فقد كان هيكل اليهود مدمرا أيضاً. بهذا المعنى قصد الانجيلي أن يشير إلى أن نبوءة يسوع قد تحققت. فالعبادة الحقة لم تعد مرتبطة بمكان مقدس بل هي عبادة بالروح، والروح أبعد وأرفع من أي مكان حقيقة أرضية.

 

أحبائي قد يكون هدف الانجيلي من رواية هذه القصة أن يقول أن الانسان يعيش، يقوى وينمو مما يريد أن يحققه في حياته. أي يعيش من أجله يغذي بقاءه ويقوي حياته. يسوع كان يعيش من أجل اتمام مشيئة الله، إذن هو يعيش ويتغذى من هذه الحقيقة. أما الانسان الذي لا شيء في حياته يعيش من أجله فهو انسان فقير وجائع روحياً إلى أقصى درجات الفقر والجوع.

 

اتمام مشيئة الله انما هو عطية سماوية، اخوتي الأحباء، ولقد أعطى الله نعمة وأعطى من روحه إلى كل انسان لينبع في داخله كينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية. هذا الروح الذي به نطيع الله طاعة كاملة يوحدنا بالله وهذا هو الهدف الاسمى لحياة الانسان ووجوده. هذا الهدف الأسمى وهذه العطية السماوية لا يقارنا بالعطايا الأرضية الأخرى. فمن يشرب من بئر يعقوب يعطش أيضًا، ولكن من يشرب من الماء الذي يعطيه يسوع المسيح فلن يعطش إلى الأبد.

 

 

 

سيلفي أفاكيان- معمارباشي

[1] عظة ألقيت في الكنيسة الانجيلية الوطنية في الحدث في 27.03.2011

 

 

 

 

 

[1]"كلمة الصليب عند الهالكين جهالة"

 

في رسالة يعقوب وبعد أن أشار الى أخطار استعمال اللسان وأهمية ضبطه في الاصحاح الثالث، يميز بين نوعين من الحكمة: الحكمة التي تعرف الغيرة والتحزب هذه الحكمة ليست نازلة من فوق بل هي ارضية نفسانية شيطانية، أما النوع الثاني من الحكمة فهي طاهرة، مسالمة، مترفقة، مملوءة رحمة ً وأثماراً صالحة، عديمة الريب والرياء. وهذا النوع الثاني من الحكمة هو النازل من فوق.

 

من الصعب أن نكون دائماً واعيين في حياتنا لهذا التمييز بين الحكمة التي من العالم والحكمة الحقيقية التي من فوق. من خلال تأملات اليوم نريد ان نشير الى أهمية هذاا التمييز بين الحكمة الانسانية الارضية وحكمة الله المعطاة لنا عن طريق الروح القدس. لكي يصل الانسان لهذا الوعي والقدرة على التمييز يلزمه الكثير من التدريب في الحياة الروحية وحياة الخدمة المسيحية المبنية على التواضع والمحبة الحقيقية للآخر. بشكل عام أسهل على المرء أن يتكلم عن الاشياء التي حققها في حياته، فيتكلم مثلا عن تحصيله العلمي، او المستوى المادي الجيد أو المقبول الذي يتمتع به. ويمكن أن نضيف أيضاً احترام الناس له ولكلمته. وكيف أن اولاده قد وصلوا الى مراكز جيدة في حياتهم، حتى أنه من الممكن أيضا أن يتكلم المرء عن اخفاقاته في الحياة، فيقول مثلا إنه كان يأمل الحصول على عمل أفضل، مستوى مادي أحسن، مراكز أفضل لأولاده ومستقبل أحسن لهم.

 

نعم من السهل علينا أن نتكلم هكذا كما يتكلم الجميع عن نجاحاتهم أو حتى عن خيباتهم. مع أننا نعرف في داخلنا أن الايمان المسيحي لا يدعونا الى كل هذا. نعرف في داخلنا أن الايمان المسيحي لا يدعونا لأي نوع من التفاخر ولا لأي نوع من الاحساس بالنقص أو الخجل.

 

الصعوبة الكبرى هي أن ندمج ايماننا المسيحي بحياتنا اليومية بحيث اننا لا نعمل ولا نتكلم ولا نفكر كما يعمل ويتكلم ويفكر الجميع بل كما يملي علينا ايماننا المسيحي.

 

هذا -كما قلت في البداية - ليس سهلا لأننا قد نبدو بالنسبة الى العالم كغرباء. قد نبدو كجهلاء لأننا إذا أردنا أن نعيش حياتنا بالايمان المسيحي سوف ننظر الى المسيح، ليس بنظرة عابرة لغاية معينة ومن ثم نعود الى ضجيج حياتنا المستمر، بل سننظر الى المسيح مع كل خطوة من خطوات حياتنا. وقد يبدو هذا صعباً، أن ننظر الى المسيح مع كل خطوات حياتنا أي أن نتمثل به، ونفكر مثله ونحب ونسامح ونتواضع كما أحب وسامح وتواضع.

 

بالايمان المسيحي لا يكترث الانسان بالألقاب والمظاهر الخارجية للامور بل يسعى لمعرفة الله ومحبته لكل البشر ويدرك أن ما يملكه ليس ملكه هو ولا هو بمصدر للاشياء، بل كل الاشياء معطاة له من الله. عندما نتكلم بحكمتنا الانسانية، نبالغ أحيانا في وصف ما حققناه في حياتنا ونعرف في داخلنا أننا نقول اشياء قد تكون معظمها غير حقيقية. وقد يكتشف الانسان في لحظة صدق مع ذاته أن لا حول له ولا قوة وأن الانسان يوجد فعلا بفضل الله. وهذا هو معنى الوداعة الذي يركز عليها يعقوب عندما يقول: "من هو حكيم وعالم بينكم فلير أعماله بالتصرف الحسن في وداعة الحكمة". هذا الايمان المسيحي وهذه الحكمة الالهية معطاة لنا من الروح القدس. يقول الرسول بولس: "نحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله، لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. لا بأقوال تعلمها حكمة انسانية، بل بما يعلمه الروح القدس" (1كو2: 12).

 

فالحكمة الالهية، أيها الاحباء، تدربنا في طريق الصليب. حيث لا اريد لنفسي أن أكون الاول بل اريد أن أخدم الآخر وأرفعه الى اله المحبة. في انجيل مرقس نقرأ أن المسيح جاء الى كفر ناحوم (على الارجح الى بيت بطرس) وهو في طريقه الى أورشليم، وقال لتلاميذه: "بماذا كنتم تتكالمون فيما بينكم في الطريق؟ فسكتوا لأنهم تحاجّوا في الطريق بعضهم مع بعض في من هو الأعظم" (مر9: 33-34) مع أننا قرأنا قبل قليل من الوقت أن يسوع تكلم للتلاميذ عن موته وقيامته، أما التلاميذ فنقرأ أنهم "لم يفهموا القول". حيث كانوا بعيدين عن فكر المسيح وحكمته. لمرة أخرى يحاول يسوع أن يعلم تلاميذه عن حكمة الملكوت وحياة الصليب. الحياة التي لا تخاف الموت ولا تخاف المرض ولا تخاف الفقر. فنقرأ عن يسوع أنه جلس و"نادى الاثني عشر وقال لهم: اذا أراد احد أن يكون أولا فيكون آخر الكل وخادما للكل. فأخذ ولداً وأقامه في وسطهم ثم احتضنه وقال لهم: من قبل واحدا من الاولاد مثل هذا باسمي يقبلني، ومن قبلني فليس يقبلني أنا بل يقبل الذي أرسلني" (مر9: 35-37).

 

إذاً، جلس يسوع المعلم ليعلم التلاميذ. أما باحتضانه ولداً أمام التلاميذ فكأنه كان يصور لهم مثلاً (parable) عوضاً من أن يحكيه لهم. الأولاد في ذلك العهد من المجتمع اليهودي لم يتمتعوا بمكانة هامة في المجتمع. فالاصغاء لكلام الاولاد كان مضيعة للوقت. الملفت للنظر أن كلمة "ولد" في الآية 37 قد تعني في الاصل الارامي Talya ولد أو خادم، أي من هو الاقل قوة ومرتبة في المجتمع. إذا ما هو الدرس؟ ماذا يريد يسوع ان يعلم؟ من يريد أن يكون الاول عليه أن يكون آخر الكل. أيضاً نعرف أن الاوائل في المجتمع اليهودي آنذاك كانوا القادة السياسيين، الارستقراطيين والكهنة. أما "آخر الكل" فهو من لا سلطة له ولا امتياز. وهذه مكانة لا أحد يريد أن يكون فيها، أما يسوع فيقول الاول عليه أن يكون آخر الكل. سأل أحدهم قسيساً لماذا الناس لا يرون الله مثلما كانوا يفعلون أيام المسيح؟ فأجابهم بأنهم لم يعودوا ينحنون وينظرون الى الأسفل. الآن نفهم لماذا قال بولس الرسول في رسالته الاولى الى كورنثوس 1: 18- 21: فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ، 19لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ:«سَأُبِيدُ حِكْمَةَ الْحُكَمَاءِ، وَأَرْفُضُ فَهْمَ الْفُهَمَاءِ». 20أَيْنَ الْحَكِيمُ؟ أَيْنَ الْكَاتِبُ؟ أَيْنَ مُبَاحِثُ هذَا الدَّهْرِ؟ أَلَمْ يُجَهِّلِ اللهُ حِكْمَةَ هذَا الْعَالَمِ؟ 21لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ اللهِ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ، اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ.

 

نعم نحن نكرز بالمسيح مصلوباً . أما الصليب فكان جهالة لليونانين وعثرة لليهود. جهالة لليونانين لأنهم لم يفهموا كيف يمكن لانسان مصلوب أن يخلص الآخرين، وعثرة لليهود لأنهم لم يعرفوا كيف يمكن للمسيا أن يُصلب وهو الملك الذي سيحكم. فبالحكمة الانسانية لا يمكننا فهم الصليب، ولا حتى فهم تعاليم يسوع لكننا نعلم اليوم أن الحكمة الالهية معطاة لنا، وبهذه الحكمة يمكننا أن نفهم الصليب كرمز للوداعة والمحبة والخدمة. هل يمكننا اليوم ان نمارس هذه الحكمة الالهية، حكمة الاطفال، حكمة الوداعة والخدمة؟

 

كأن التلاميذ ويسوع كانوا على طريقين مختلفين وحتى طريقين متعاكسين. هذا الاختلاف، وهذا الصراع، بين ما كانوا يريدونه التلاميذ وبين ما كان يريد يسوع أن يعلمههم نعيشه نحن أيضاً كمؤمنين اليوم في داخلنا وأيضاً في علاقاتنا مع المجتمع. هذا الصراع سيبقى يلازمنا كمؤمنين الى آخر حياتنا حيث لن نبلغ كمال الحكمة الالهية ولكننا سنسعى لها وسنداوم في طلبها، أي طلب الحكمة الالهية، لأنه فيها خلاصنا.

 

 

 

سيلفي أفاكيان- معمارباشي

 

[1] عظة ألقيت في الكنيسة الانجيلية الوطنية في الحدث في 23.05.2010